|
جريس سماوي.. الشاعر إذ يكتمل بذاتهِ
![]() جريس سماوي.. الشاعر إذ يكتمل بذاتهِ
جعفر العقيلي
هل كان جريس سماوي يتوقّع أن يكون مصيره شبيهاً بمصائر أبطال قصيدته الملحمية التي بدأ كتابتها في أواخر عام 2017 ولم يتمّها، وأنّ النجاة التي تمنّتها الجموعُ في مشهدٍ يحاكي "يوم الدينونة" سيتمنّاها هو أيضاً بينما الجائحة تحاصره وتكسر مجاديفه كي لا يصل إلى برّ الأمان؟
كان جريس يتحدث عن مناخات تلك القصيدة في حوار مع "الرأي" (22 نيسان 2020) بشيءٍ من الزهو؛ زهو المستشرف والرائي: "لم أكن أتوقع أن شيئاً مشابهاً لهذا الذي بدأتُ كتابته في القصيدة قبل ما يزيد عن سنتين سيحدث في الواقع". لكنه لم يعرف أنه سيكون في عداد الضحايا، وأن الجائحة ستخطفه منا هو الآخر، كأنه يدفع ثمنَ الحدس بها وتَصوُّرِها قبل أن تكبّلنا بالقيود والعزل الاختياري والإجباري وحظر التجول والتدابير المحبِطة.
وقبل أن يصبح نجمةً في السماء، يوم 10 آذار 2021، كان جريس، الشاعر والمثقف، قد وضع لنفسه تقويماً خلال الجائحة "الغادرة" لا يحيد عنه: "أصحو في الصباح، آخذ حمّاماً، ثم أشرب القهوة وأتابع الصحف.. أجري بعض الاتصالات الهاتفية ثم أعود للقراءة... في الليل أمارس الكتابة وتحرير ما كنت كتبت سابقاً.. أحياناً أستطلع بعض الشجرات والزهور والنباتات. وأستمتع بهذا الهمس الخفيف من الطاقة الإيجابية الذي يخرج من هذه الكائنات الخضراء والورود".
وها قد غاب حارسُ الورد وسادنُ الحاكورة، فمَن يعتني بالأرواح في غيابه؟ غاب "ابنُ الحرّاثين"، الذي كثيراً ما أصاخ السمع لخفق الأجنحة وعزف الريح وخشخشة أوراق الشجر عند عتبة الدار؛ هناك في "الفحيص"، حيث أقام الشاعر، وحيث مات.
"أنا لا أباهي هنا بالخساراتِ
لكنَّ بابَ الفجيعةِ منفتحٌ كالمسارِ على ردهةِ الموتِ".
هذا ما كتبه جريس في قصيدته "ثلاث ليالٍ سويّاً" التي احتفت بها "الرأي" (6 تشرين الأول 2020)، مُطلقاً نداءه، وما كان في الحسبان أن لا يسمعه أحد:
"تمهّل قليلًا إذنْ أيّها الموتُ
كيما يودّعُ موتى قريبون موتى بعيدين في موتهمْ
وتمهّلْ كذلك كيما يقيمُ الفراغُ احتفالاتِه
باندثارِ الحياةِ على الأرضِ
كيما يدثّرها بالخرابِ".
وفي قصيدته الأخيرة التي احتفت بها "الرأي" أيضاً (23 تشرين الأول 2020)، أراد الشاعرُ الذي يمثل برمزيته مدنيةَ العالم، قراءة سيرة الشرق، ومعاينة تحولات الإنسان فيه ومكابداته، وعاتبَ الوطنَ عتابَ المحبّ ورحلَ في ذاته مفتّشاً عن ملامحه البعيدة. يقول في قصيدته المسمّاة "أقتفي أثري أنقّب عن بلادي" التي مثّلت إطلالته الأخيرة على قرّائه قبل تلويحة الوداع:
"وأصيحُ هأنذا عثرتُ عليّ،
هأنذا وجدتُ دمي، شبيهي في التراب، وجدتُني..
وجهان لي في دفترِ التاريخ
لي في كلّ وجهٍ منهما وجهُ النقيضِ
أنا الضحيّةُ والمضَحّي
والصلاة،
أنا التقى، العصيان، نصلُ السيفِ، تأنيبُ الضميرِ،
أنا الدخانُ وظلّه،
وصْفُ المؤرخ للمذابح والحروبِ
بجملةٍ صفراء في كتبِ الأباطرة القديمةِ..
أتبعُ الورقَ العتيقَ وأقلّبُ الصفحات
تخذلني اللغات".
ولم يكن غريباً أن ينهي صاحبُ "زلّة أخرى للحكمة" قصيدته/ نفثته الأخيرة بقوله:
"رفعتُ يدَين عابدتَين منصتَتين للمعنى
لنبض الله في الإنسان
إذ ترفو يدا أمي ملامحي الأثيرة
في قماشِ الثوب
أبدو باسماً مستبشراً عذبا
ومكتملاً بذاتي
حاضنًا بيديَّ ما اجترح الإله
وغامراً روحي بإيقاع الحياة".
لقد اكتمل جريس إذن بذاته، وغمر روحَه بإيقاع الحياة حدَّ أنه كرّس نفسه لها، واحتفى بها كما لو أنه عاشقٌ صافٍ، لا غاية له سوى إعلاء صوت الحبّ والقيم النبيلة.
في اتصالي الأخير به قبل أيام على الفاجعة، قال بصوته المبحوح: "شدّة وتزول". لكنها لم تَزُل. فكان الغياب، ويا لفداحته. وكان أن نكث الوعد، إذ رتّب أوراقه –كما دأبُه دائماً- لينشر باقةً من قصائده تباعاً في "الرأي".. ويا لكثرة المشاريع المؤجلة!
في سيرة الشاعر الفارس، نقرأ أنه وُلد يوم 22/12/1956 في عمّان، درَس المرحلة الإعدادية في "الفحيص"، وأنهى الثانوية في مدرسة صويلح الثانوية سنة 1976، ودَرَس فن الاتصالات الإعلامي في الولايات المتحدة الأميركية، ثم حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من الجامعة الأردنية سنة 1988.
عمل في التلفزيون الأردني، معدّاً ومقدّماً لعدد من البرامج الثقافية على القناتين العربية والإنجليزية (1992-1997)، ثم نائباً لمدير مهرجان جرش للثقافة والفنون (1997-2001)، ثم مديراً عاماً للمهرجان (2001-2006). ثم عُيّن أميناً عاماً لوزارة الثقافة (2006-2011)، فوزيراً للثقافة (2011). كما أعدّ وقدّم برامج ثقافية في عدد من المحطات الإذاعية والتلفزيونية، منها: "ذاكرة نغم" و"نون النسوة".
نال الشاعر الراحل الجائزةَ الأولى لأفضل قصيدة عربية عن الانتفاضة الفلسطينية من اللجنة الشعبية الأردنية لدعم الانتفاضة سنة 1987 (بالمشاركة مع حبيب الزيودي وعلي الفزّاع). وصدرت له مجموعة وحيدة بعنوان "زلّة أخرى للحكمة"، طُبعت غير مرة.
![]() تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ،
ويحتفظ موقع 'ألوان للثقافة والفنون' بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أو خروجا عن الموضوع المطروح ، علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
اختر هنا لادخال التعليق |